في مثل هذه الساعة المبكرة، وفي عزّ موسم الصيف، كانَ يحلو لصيادي عكا اعتلاء قواربهم والانطلاق بِها في عباب البحر، وكان الوقود يكفيهم لساعاتٍ طوال، يقضونها في التقاط أسماك البحر بأنواعها المختلفة، ومع كُل نوعٍ جديد مِن الأسماك، كان قلب الصيّاد يخفق بفرحٍ كما لو أنه ملك الدنيا كلها، "كيف لا؟ وهواء عكا يردُ الرُوح للمنهك بعد رحلةٍ بحرية جلبت معها مؤونة أسبوعٍ كاملٍ، ومبلغًا محترمًا مِن المال يسترُ الحال ويُفرح العائلة" هذا ما قاله أبو حسن (ادريس الحتحوت) صيادٌ عكاويٌ عريق، قبل أن يرتشف قهوته ويصمت.

أما أنا فكنتُ أراقبه وهو يجلسُ أمامي بابتسامةٍ ذليلة، وهو يُشيرُ إلى المجموعة الجالسة في المقهى، وجوهٌ عابسة، مهمومة، "هؤلاء كانوا يضحكون للبحرِ فيبتسم لهم، أما اليوم فما عسانا نحكي، عن ماضٍ ليته يعود مِن جديد، هُنا في هذا المقهى في وسط عكا القديمة، بدأت علاقتي بالصيد، وهُنا اليوم أبكي على ما مضى"، في هذا الرُكنُ المنزوي في أزقة عكا، لا زالَت نكهة القهوة "تفحفح" فتداوي العليل، وجُلّ المارين مِن أمام المكان هم عربٌ، ينظرون إلى الوجوه فيعرفون أنّ هؤلاء هم قلبُ هذا المكان، هُم جسرُ الوصول إلى عكا.

وتغني أم كلثوم كعادتها بصوتٍ منخفض، تشغلُ قليلاً مِن تفكير مسني عكا، الذين يرتبون أوراق الشدّة أمامهم بصمتٍ جلّي، بعضهم نفخ نفسًا طويلاً من أرجيلته ثم عاد ليعدّ أوراقه ثانيةً، وفي أضيقِ زواريب عكا جلس الحاج ادريس حتحوت (77 عامًا) قبالتي وراح ينظر إلى المارين تارةً، ويجيبني على تساؤلاتي علّه كما قال "يعود إلى الماضي الجميل".

كان يتحدث إليّ فأخاله يجلس قبالة البحر ويروي حكايته: "ولدتُ عام 1935، وفي النكبة كنتُ ابن 13 عامًا، أبحرَ شقيقي الأكبر إلى لبنان، أما أنا وأخي الأصغر وثلاث شقيقات فكُنا مع والدي نعيشُ في دكانٍ عند آخر هذا الحي قريبًا مِن هُنا، وفي ليلةٍ لمع نجمها قلتُ لوالدي أنني سأتعلم مهنة الصيد، عملتُ مع عائلة الحلواني، علمًا أنني لا أجيد القراءة ولا الكتابة كوالدي، ولا مهنة لي غير الإبحار وصيد الأسماك، وحين باعَ أبي دكانه صرُت أنا المعيل في البيت".

"في مهنة الصيد تقلبت أحوالي، في البداية كانَ هديرُ البحرِ قويًا يحملُ معه غلّةً وفيرة مِن الأسماك مختلفة الأجناس، لكن لاحقًا شاخَ البحرُ وكبرتُ أنا فما عادَ الحالُ يكفي وما عادت رزقة العيالِ تكفيها بضعُ سمكاتٍ أغرفها من قاعِ البحر".

يتابع أبو حسن: "معظمُ العرب في عكا اعتاشوا على صيد الأسماك، كُنتُ في كل صباحٍ ألتقي بالمئات مِن العكاويين المنطلقين إلى البحر برأسِ مرفوعة وبسمة تملأ الوجه، وما كان يزعجنا طقسُ عكا، الذي يسفع الوجوه فيزيدها احتراقًا وسمارًا، بل كان يطيبُ للصغار والشباب منهم القفز إلى الماء كالأبطالِ، كالأسماك التي لا تعيشُ بدون البحر، ينتعشون وترتد اليهم الحياة من جديد".

"أما الصيّاد فكان مشغولاً بمركبته، وصنارته المقصّبة، التي تغيّرت وصارت أكثر قوة وخفّة في الوزن، هكذا سار الصياد بتطوراتٍ عصرية علّه يسبق الزمن، لكن الحال توقف ماديًا ونفسيًا أيضًا، في ظل وجود عملية حصارٍ للصيادين والضرائب الباهظة غير المبررة المفروضة على الصيادين العرب، خوفًا من الاقتراب من "منطقةٍ أمنية"، ومع التضييق وسوء الحال وشُح الأسماك في البحر وثمنه الباهظ، والوجبة الملوكية التي تصل إلى 300 شاقل، بينما يعتمد باعة السمك في عكا هذه الأيام على الأسماك المجففة، ولهذا تركتُ المهنة وأصبحتُ عاطلاً عن العمل، يكفيني ما أصرفه مِن مبلغٍ زهيد، وما عسى المُسن في عمري أن يشتري، ليستعيد أيامه الخوالي؟!".

يسرح أبو حسن بخياله وكأنه يمخر عباب البحر وبصوتٍ خافت يقول: "للبحر وأمواجه ذكرياتٌ جميلة منذ الصبا، وللفنار في عكا صورةٌ لا يمكن محوها من ذاكرة العكاوي، يكفي النظر من هناك إلى مدى البحر الواسع لتشعر أنك في جنة الرضوان، أحلُم أحيانًا لو أنّني أسترد حياتي من جديد وأقفز كالشباب إلى البحر أشكو متاعبي ويحتضن كالأبِ الحنون".

ثم عاد إلى واقعه: "تزوجت وكوّنت أسرة كبيرة، تزوجُ أبنائي وبناتي وأنجبوا أحفادًا، وكلهم يحبون عكا مثلي، أشعرُ أن دمي الذي يسري في شراييني أصله من بحرِ عكا، وكذلك هُم، "لكن اليوم تبدل الحال، صارَ البحرُ يبكي أسماكه التي فارقته، جاءت مراكبٌ كبيرة "الكوبرا" أتت على الأخضر واليابس، لكن الأسماك لم تعد تبيض وتتكاثر كما كانت، وماذا يفعل الصياد العكاوي أمام هذا؟! إنّ رحلةً بحرية لإحضار بعض سمكاتٍ لا تتجاوز أصابع اليد تتطلب كمية بنزين كبيرة، وفي نهاية اليوم، كنتُ أعوُد إلى البيت مع خسارةٍ وخوفٍ أن أحظى للأسف بمخالفةٍ تصل إلى ثلاثة آلاف شيكل من رجال الخفر".

يعود إلى ماضيه: "معظم عائلتي شُردت إلى لبنان يوم النكبة، وذهبت أربع شقيقات لي برفقة أزواجهن، أقمن في بيروت، ورحلن إلى الأبد، ولم التقيهن ولو صدفة"، "ما عاد بالإمكان إعادة ما كان، ولا عودة من رحلوا. وأظنك تصدقيني القول أنّ الذي يتكسّر لا يعود مِن جديد، كهذه "الزجاجة" كيف لها أن تلملم شظاياها مِن جديد؟! أنا كذلك، وبات لقاء الأحبة حُلمًا صعبَ المنال، لكنّها سنة الحياة".

غادة أسعد
فصل المقال، 16/6/2013